أيمن عبد الرسول
في ندوة لي منذ أكثر من عشر سنوات، كان يحضرها أحد كبار العلمانيين المصريين، وبدأت حديثي عن تجديد الخطاب الإسلامي موجهًا إلى جمهور مختلط، مسلم ومسيحي وبهائي، بكلمة تلقائية، أغضبته، وجعلته وهو القطب العلماني الكبير يشكك في كوني علمانيًّا، وأنه لا يمكنه التجاوز عن هذه الخطية المدنية والأكاديمية حسب نص تعبيره وقتها، فماذا قلت؟
قلتها بمنتهى الاعتيادية، وحسن النية والمحبة والسلام، ولو على طريقة المطرب الشعبي حكيم: السلام عليكم!
ومر الموقف، وقد أُحرجت علمانيًّا، وجرحت في صميم علمانيتي التي أعتز بها بعد إسلامي ومصريتي وعروبتي، غير أنه وضعني بعدها ولسنوات طوال أمام فكرة الأصولية العلمانية، نعم الأصولية بمعنى Fundamentalism وترجمتها الحرفية "الماضوية" وتستخدم عادة كنقيض للعلمانية Secularism وترجمتها الحرفية بعد العودة إلى جذورها اللاتينية "الزمانية"، فأنا أزعم أن معظم إن لم يكن كل العلمانيين المصريين، يتعاملون مع العلمانية بذهنية أصولية، ويسيئون إلى المصطلح بممارسات شكلية، لا تقل تفاهةً عن نظيرها الأصولي، أقصد في التيارات الإسلامية المتشددة، فهناك تشدد علماني شكلاني، يعبر عن مراهقة فكرية، وتدوير نفايات لا تخصنا على أرضنا، وفي مجتمعنا المصري، المؤمن ببراح رحمة الله، والعملي جدًّا في تعامله مع إلهه من لدن آمون وحتى الله جل وعلا، والذي يرفض الإلحاد لأسباب عملية أيضًا، فالمثل المصري العبقري القائل: "ربنا عرفوه بالعقل".. هو أصدق تعبير عن عملية التدين الذي بدا لي وخلال دراسات معتبرة طبيعيًّا، لأنه ـ أي التدين ـ والإيمان بالبعث والخلود والحساب، وغيرها من أسس الدين، اختراع مصري، قبل وصول العناية الإلهية إلى العالم بالرسالات، ولأننا شعب متدين، حتى الملحد منا مُلحد على كتالوج الدين الذي ألحد فيه، ولديه إيمان عميق، نعم إيمان، بأن إلحاده هو الصواب المطلق، تخيل.. مؤمن جدًّا بإلحاده!
وهكذا، خلال سنوات طويلة، ومناقشات عميقة وكبيرة، نحاول أن نُفهم الناس في بلدنا مصر، ما هي العلمانية، تارة نقول فصل الدين عن السياسة لنرفع الدين في أعلى عليين، ونحافظ عليه، ثم لننظر إلى أحوال من يدعون أنهم يطالبون بالفصل حفاظًا على الدين، لا يسخرون ولا ينتقدون ولا يفهمون إلا في تشويه الدين، أي دين، ويتكالبون على تاريخ المسلمين وفقط، يحاولون طرح قضاياه على مائدة النقد، وهم في الحقيقة المُفجعة يقصدون هدم الدين، أي دين، وكل دين، ويستخدمون التاريخ بنفس الذهنية الأصولية الانتقائية، وكلٌّ يقرأ التاريخ برؤيته، ويعيد إنتاج أساطيره لتتناسب مع كل مخيلة، فالمتطرف لا يجد إلا عصرًا ذهبيًّا ومثاليات في مثاليات، ويختزل تاريخًا مريرًا من الخلافة الإسلامية في سنوات حكم المستبد العادل، عمر بن الخطاب، وعلى النقيض يقف العلماني إذا كان دارسًا جيدًا للتاريخ الإسلامي من مصادره، ويرى أنه تاريخ غلمان وخصيان ومجون، ودم وتآمر واستغلال الدين لاستعباد البشر بالاحتلالات العربية، وأصبحت مناظرات الفريقين تدور حول هاتين الرؤيتين، إما تاريخ المسلمين لا تشوبه شائبة على الطريقة الإسلاموية، أو هو تاريخ مخزٍ أمام الإنسانية على الطريقة العلمانوية، ونسى الفريقان أنه تاريخ بشر، لا آلهة ولا أنبياء معصومين، الأول دمج التاريخ في مقدساته وقرر تكفير من ينتقده، والثاني ـ أي العلمانوي ـ صدق زعم الأول وراح يهاجم التاريخ ظنًّا منه أنه هكذا يحارب الدين، أو مقدس الآخر!
المفارقة مرعبة، تنويرنا أصولي، وعلمانيتنا سلفية، وسلفيتنا ليست سلفية، نعم سلفيتنا ليست سلفية، وإنما هي "سلفية تايواني" لا علاقة لها بالإسلام إذا دخل مصر، ولكنها وطيدة الصلة بنفايات الآخرين أيضًا، فالإسلام المصري لا يقبل سوى سلفيته، وسلفيته الخاصة هي مزيج من عادات وتقاليد المجتمع المصري، والإسلام في صورته الفطرية الأولية، بلا تنظير ولا تعقيد، مسلم، يُصلي، يصوم، ويؤتي الزكاة لمستحقيها، يحج أول ما يستطيع إلى ذلك سبيلاً، وربما أكثر من مرة وقبل كل هذا، وبعد كل هذا يستخدم كلمة "لا إله إلا الله" للدلالة على التعجب، وسبحان الله، ويحمد الله في السراء والضراء مقرنًا الحمد والثناء بالرضا: "الحمد لله.. رضا"!
أين كل تنظيرات العلمانيين الشكلانية، ونقدهم الحاد للمجتمعات التي تدين بالأديان عمومًا وليس الإسلام فقط، فلو أنهم يملكون الشجاعة الفكرية، والأمانة العلمية المدعاة، ولا يخافون كما يدعون، لو أنهم يمشون على خطى سقراط، أول الفلاسفة، لقالوا صراحةً كل ما يقولونه في الغرف المغلقة ومع نخبهم ومريديهم، ولكانوا أول من يثور على النظم السياسية الاستبدادية التي عضدوها، في حروبهم على كل ما يمت لكل ما هو ديني بصلة، الإسلام أول المستهدفين، الإسلام لا المسلمين، الإسلام لأنه من وجهة نظرهم التي لا تمتّ لمجتمعات الكتاب/ الدينية، بصلة، هو دين يحث أتباعه على العنف، ولا يقبل الآخر، ويقلل من شأن المرأة، ويقسم المجتمعات إلى سادة وعبيد، لكنهم لا يملكون الشجاعة في القول بأن رأيهم أن الإسلام دعوة سياسية، لا دينية، وأن الإسلام طموح سياسي أسست له قريش من أول قصي بن كلاب، ليخرج لنا محمد برسالة يدعي أنها من وحي السماء، ويستشهدون بكلام لأحد المستهزئين، وهو خليفة مسلم في النهاية، "تلاعب بالخلافة هاشمي/ بلا وحي أتاه ولا كتاب، فقل لله يمنعني طعامي، وقل لله يمنعني شرابي"!
لو أنهم أسسوا لمناخ الحرية التي يروِّجون لها على كتالوج مستورد هو الآخر، فهم دائمًا ما يتهمون السلفيين باستيراد السلفية الوهابية، من شبه الجزيرة العربية، وفي كل مسامرة علمانية، لا بد من التأكيد على هذه المعلومة، وكأن علمانيتهم السلفية المشوهة اختراع مصري، أقول إنهم لا يؤسسون إلا لحريتهم هم، ويحتكرون الحديث باسم الحرية، ويعادون كل ما هو ديني رغم أن عداء الآخر لاختلافه، أو السخرية منه، وتسفيهه طول الوقت، وتحقير شأنه، وإشعاره بدونيته وعدم فهمه وجهله، هي السور الذي وضعه العلمانيون المصريون بينهم وبين جمهور المصريين، ولأن أغلب العلمانيين ـ وقد كنت مثلهم بالمناسبة ـ نرجسيون، ذاتيون، لا يجيدون التعامل مع ذويهم الأقربين، لأنهم استمرؤوا حالة الاغتراب، وسموها نخبوية، وحالة عدم التواصل مع المجتمع وسموها "مفكرين بقى"، وسخروا من الناس، كل الناس، والأهم والأخطر من دين الناس، كل الناس أيضًا، فلن يقبلهم المصري البسيط مسلمًا أو قبطيًّا، بهائيًّا أو ملحدًا، إلا الملحد على طريقتهم، التي ترفع دينًا على دين، وتزكي أناسًا على آخرين، والمعيار أصله فاسد ويعاني من الالتباس.
سيقول السفهاء: دا قابض من السلفيين، أو ممرور لأنه لم يكن لنفسه مكان بين العلمانيين، وسيتوقع البعض أنني سأتبرَّأ مما كتبت على مدى 18عامًا، ومن كتابي في نقد الإسلام الوضعي، وفي نقد المثقف والسلطة والإرهاب، وأقول لهم: الذي قبضته من العلمانيين هو الذي أقبضه من السلفيين أو غيرهم، وهو احترامي لذاتي ولبني بلدي، ولديني كما أحترم أديان الآخرين، أما المكان والمكانة فالله الغني عن سمعة تلحق بي عار الإلحاد من بعد الإيمان، أما ما كتبت فيعلم الله، أنني كتبته بغرض إصلاح ما أفسده بعض المسلمين في إسلامنا، وكنت فعلاً وحقًّا وبحثًا، أريد الإصلاح ما استطعت، وإن كنت فهمت غلط "شويتين" فلي أجر الاجتهاد، والنوايا لا يعلمها إلا الله، ولا يعني مقالي هذا أنني أصبحت سلفيًّا، ولو أن السلفية على مستوى العقيدة الإسلامية هي الأقرب إلى مدرسة الفطرة، وأعني السلفية العقدية، وهي العقيدة الوسطية، ولن أدافع عنها الآن، لأن لي ملاحظات أيضًا على المروجين لها كملاحظاتي على العلمانيين، ولكنه يعني أن العبد لله الضعيف يقول بعد سنوات من اعتناق العلمانية كتيار سياسي وفلسفي، وبفضل أغلب العلمانيين المصريين: "هذا فراقٌ بيني وبينكِ".. لأنه تيار بني على باطل فلسفي، ولا يتناسب مع المجتمع المصري، ولا حاجة فكرية ولا سياسية بالمناسبة لنا به.. الحقيقة أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى علمانيين ملحدين ليعرفوهم دينهم، ويشوهوه، وهم لا يحترمون أوامره بعدم السخرية من المتدينين أما لصالح من؟ فهذا كلام آخر شرحه يطول..
وختامًا: لما رأيت مدعي العلمانية في مصر لا يجتهدون في صياغة علمانية مصرية، ولا تصدق مقالاتهم أفعالهم، ولأنني مؤمن تمامًا أن الإنسان هو ما يفعل لا ما يقول.. أقول قولي هذا. وأستغفر الله العظيم لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
وإلى المُلتقى!
مقالة رائعة فيها افكار محترمة من كاتب محترم اعجب به كثيرا
ردحذف