الأربعاء، 19 يناير 2011

أولع في نفسي؟!


أيمن عبد الرسول
كم مرة يا صديقي حاولت تنتحر، والانتحار جريمة شرعية وقانونية، في حق النفس والمجتمع؟ وهل الانتحار حلاًّ؟ أسئلة أظنها منطقية في ظل هوجة الانتحارات ذات المغزى السياسي، من تونس إلى الجزائر وموريتانيا، وأخيرًا وليس آخرًا في مصرنا الغالية، وكم تساوي حياة المنتحر احتجاجًا في ميزان السياسيين المصريين، وهل نحن بحاجة إلى استيراد ثقافة الانتحار؟ وماذا بعد الانتحار، يعني ما العائد على المنتحر حرقًا وعلى من يساندونه من المحتجين الذين لا يملكون شجاعته، ولأي هدف نولع في أنفسنا؟
والأمر بحاجة جادة لمراجعة مفهوم الثقافة المصرية عن الاحتجاج، من التبرُّم صوتًا إلى الاحتجاج حرقًا، ولماذا لا أبشر المستبشرين خيرًا بأن الحالة التونسية ستنتقل إلى مصر المحروسة، حتى لا يصعد المدَّعون المأفونون والأفاقون ومحترفو المزايدة على جثث المواطنين الذين ينتحرون لأسباب خاصة وفئوية، لا علاقة لها بالاحتجاج السياسي، ولا بالتغيير على طريقة المحتجِّين جعجعة على الفيس بوك، وصفحات النضال الهتافي النصي عبر الإنترنت، لماذا أرفض الحديث عن عدوى تونسية في مصر؟
فالإجابة ليست تونس، لأنه لم يحدث في تاريخ الحراك الاجتماعي المصري كله من لدن أول ثورة تاريخية على يد مواطن مصري مجهول في عهد الملك بيبي الثالث، مرة واحدة في الستة آلاف سنة من التاريخ المسجل لمصر.. وكانت هذه الثورة من حوالي 45 قرنًا في أواخر الأسرة السادسة، وكان يسيطر عليها ملك ضعيف هو الملك "بيبي الثاني"، الذي اعتلى العرش وعمره ست سنوات ولمدة 94 عامًا، وقد عرفت مصر في عهده، وقبل وبعد ذلك مائتي سنة أو أكثر من الظلام والفساد والانحلال والانهيار والانقلابات: انقلاب المصريين بعضهم على بعض.. والحروب القبلية الأهلية، فقد كان للمدن حكام وكان الحكام في حالة صراع، بينما تقدمت القبائل البدوية من الشرق والغرب تغزو البلاد.
وكل ما لدينا من معلومات مدوَّنة كتبها مؤرخ اسمه "أبوري" في كتاب اسمه "صرخة نبي"، وقد وصف المؤرخ المصري الكبير سليم حسن هذه الثورة بأنها كالثورة البلشفية تمامًا، قد حطمت وهدمت كل شيء.
أما الصرخة المدونة فهي تحفة أدبية كتبها هذا المؤرخ وهو يصف حال مصر للملك العجوز "بيبي الثاني". يقول له: إن الناس قد جاعت وماتت من الجوع، ولأن الناس عاجزون عن دفن موتاهم فقد نشطت صناعة الدفن، والعاجزون عن الدفن كانوا يلقون الجثث في النيل حتى أصبحت التماسيح ضخمة بسبب هذه الجثث، ولم يعد يستورد خشب الأرز من لبنان لصناعة التوابيت، وهجم الناس على قبور الملوك، وهجموا على طعام الخنازير فلم يعد أحد يجد طعامًا. وانقلبت الأوضاع في المجتمع، ولم يعد أحد يضحك، وحتى الأمهات لم يعدن ينجبن. والمرأة التي كانت ترتدي الكتان تمشي ممزقة، والتي كانت تملك المرايا لم تعد ترى وجهها إلا على سطح الماء، ولم يعد أحد يحترم الكبير ولا العالم ولا رجل الدين ولا أبويه.
وكان الناس يقولون: يا ليتنا متنا قبل هذا. وكان الأطفال يقولون: ولماذا أتوا بنا.. واللصوص صاروا أغنياء.. ولم يعد أحد منهم في حاجة إلى أن يتزوج، ففي فراشه كثيرات من بنات العائلات الغنية من أجل الطعام والشراب والمأوى، ولا أحد يخاف من رجال الأمن ولا النبلاء ولا الكهنة ولا الأسر المالكة. كلها لم يعد لها وجود، إنها تتوارى أو تهرب أو تلقي بنفسها في النيل.
ولكن التاريخ لم يقل لنا بعد ذلك، أي بعد قرنين من الزمان ماذا حدث في مصر؟
وكيف استقامت الأوضاع وكيف استأنف الفراعنة البناء والحياة والإنتاج، واستقر الحكم وعادت الآلهة إلى مكانها الرفيع من قلوب الناس وعقولهم.
إنها أكبر وأوسع وأعظم ثورة في التاريخ سجلها أديب شاعر مفكر لم نجد لها نظيرًا في ألوف السنين بعد ذلك!
هكذا ثار المصريون منذ 45 قرنًا، فهل قاموا بثورة بعدها، وهل نجحت؟ الحقيقة أن مراجعة الاحتجاجات في مصر تكشف عن أن معظمها فئوية، تطالب بمطالب محددة لفئة معينة، تعاني وضعًا رديئًا، وريثما تحل لهم الدولة مشكلتهم الخاصة، تنتهي الإضرابات والمظاهرات والوقفات الاحتجاجية، ولكن أن يجمع المصريون، كل المصريين هدف واحد يسعون إلى تحقيقه، لم ولن يحدث!
سيقول بعضهم: ولمَ الجزم؟ وأقول العبرة بالتاريخ والأحداث، لا التمنيات وأحلام العصافير، فالمصري عمومًا شخصية غير نضالية، ولا تحترف العمل الجماعي المنظم، بدليل عدم وجود عصابات منظمة، وتولع في نفسها لأي سبب، إلا التغيير السياسي، فثقافة الانتحار حرقًا اختراع مصري، كل بنت ترفض عريسًا تهدِّد بالجاز والكبريت، كل شخص مخنوق م الدنيا يولع في نفسه، أما لماذا لن يكرِّر المصريين تجربة الثورة ضد الملك بيبي المليون رغم تشابه المواضعات، فهذا حديث آخر عن نظرية إشارة المرور.. ربما أكتبه قريبًا قبل ما أقرَّر أولع في نفسي!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق