الأحد، 16 يناير 2011

ناصر الثورة.. وضحيتها!




أيمن عبد الرسول

"قتلناك يا آخر الأنبياء"، قالها نزار قباني يوم مات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وأقولها اليوم مرددًا معنى عميقًا يسكنني كلما حاولت فهم شخصيته المتفرِّدة، وزعامته التاريخية بمقاييس عصره التي صنعت منه أسطورة، وكعادة الأساطير أنها لا تتكرر، ولا يملك أمامها المتابع إلا الحب أو الكراهية، الصعود ببطلها إلى أعلى السماء، أو الهبوط به إلى سابع أرض، تبدلت علاقتي بالزعيم، من خلال القراءة طبعًا.. من قمة الكراهية إلى قمة المحبة، فأنا ابن جيل السادات، إن صحت الرؤية، ابن النصر لا الهزيمة التي ندلِّلها باسم "النكسة"، وابن الانفتاح والفهلوة، لا أعرف لماذا أتذكر مرافعة النجم الراحل برضه بطل "ناصر 56" أحمد زكي ولكن في آخر فيلم ضد الحكومة، ولا أعرف أيضًا كيف أكتب عن جمال عبد الناصر دون التورُّط في الإعجاب به، ومحبته خصوصًا في ظل زمن أشباه الرجال ولا نقول الزعماء، في الوقت الذي يهرب فيه رئيس تونس خوفًا من بطش الشعب به وبأسرته، المتورِّطة في فساد بلغ الركب، وتستقبله السعودية بعد أن صدت في وجهه أبواب البلدان الديمقراطية، كان لا بد أن أتذكر الرجل الذي خرجت جموع الشعب المصري في الشوارع ليلة خطاب التنحي الشهير ترفض تنحيه وتطالب بعودته، نعم ربما كانت المرحلة الناصرية المستندة إلى شرعية يوليو، أقول ربما كانت مرحلة دكتاتورية، لكنها كانت المرحلة الأكثر ازدهارًا في تاريخ مصر، وإذا كان محمد علي الألباني العسكري هو باني نهضة مصر الحديثة، فجمال عبد الناصر بلا شك ورغم كل مساوئه هو مؤسِّس مصر المعاصرة، بالمشروع القومي العربي الموحَّد، رغم جني الفشل، بالسد العالي، بالانتصار للعمال والفلاحين، بنهضة صناعية لم نزل نسترزق من ثمارها حتى اليوم، بجيش قاد البلاد إلى نصر أكتوبر، بعد مرارة الهزيمة القاسية، بتأسيس مجتمع العدالة والاشتراكية وإن كانت الحرية لم تكن كاملة، وتلك عادة الحركات العسكرية التي يعلو فيها صوت الانضباط على صوت الحريات، جمال عبد الناصر هو ما تحتاجه الشعوب العربية الضالة، الدكتاتور العادل!
كان بن علي الرئيسي التونسي الراحل على قيد الحياة مستبدًا، ولم يكن عادلاً، كان من أفضل الرجال في علمنة المجتمع التونسي، والوقوف بحسم تجاه الأسلمة، كان نموذجًا للدكتاتورية العلمانية، ولكنه لم يكن أبدًا سياسيًا حكيمًا، تشعر أنه كان وعُصبته يلهون الناس بقضايا فرعية ويلتهمون كعكة الوطن، بينما كان في بلادنا عبد الناصر الذي لا تقر عينه إلا وهو يشعر برضا الشعب عنه، بغض الطرف عن رضا النخبة التي طالما اختلف معها لأنه كان يرى أنه القائد، وبمثال بسيط لو أنك تقود سيارة "بيجو 7 راكب"، وأنت الجالس في مقعد القيادة على يمين الطريق، وترى من زاوية واضحة مراياك الجانبية والخلفية، لا شك أن الركاب معك في نفس السيارة، سيرون الطريق بطريقة مختلفة، ومن زاويا مختلفة، وبالتالي يرون الحلول للمشكلات التي يواجهها القائد، من مقاعدهم.. هكذا كان عبد الناصر الذي يقود برؤية ويتحمل مسؤوليات القيادة بمبادئ المناضلين، ويحمل هموم شعبه على كتفيه، ويقود دفة الوطن بعيدًا عن تعليقات الركاب، ومما يثبت صحة وجهة نظري في الزعيم خالد الذكر ناصر، هو لجوء السادات إلى نفس آليات ناصر في التعامل مع معارضيه حتى أولئك الذين حاول تدجينهم، مثل الإخوان، والمتأسلمين، عبد الناصر كان واضحًا، حاسمًا، وهي صفات قائد حربي في ميدان القتال، كان حماسيًّا، يحارب إسرائيل بمنطق الطبلة والربابة، بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة، ها هو نزار يطل مرة أخرى بعد هزيمة حزيران، ولكنه في النهاية، يعترف "قتلناك يا آخر الأنبياء"!
مات جمال عبد الناصر بعد أن علَّم المصريين العزة والكرامة، وأذلَّ النخبويين الذين يثرثرون في العوامات وهم سكارى ويعتقدون أن تخريفاتهم سوف تصنع وطنًا يحلمون به، نحاكم ثورة يوليو الآن ونفتري على نتائجها، وأغلبنا لم يكن ليتعلم القراءة والكتابة لولا قيام الفلاحين العسكريين بها، ويتفلسف كل من هبَّ ودبَّ في ذمِّ يوليو وتاريخها ودماء ثوارها، يقولون قتلت الليبرالية، وغيَّرت مسار الطليعة البرجوازية المصرية، وهل يحتاج شعبنا المصري الليبرالية؟
سؤال حسمته تجارب رؤساء مصر من محمد نجيب إلى مبارك، نحن شعب بحاجة حقيقية وماسة إلى مستبد عادل، قائد حاسم يحملنا على ما نكره، حتى نعرف ما نحب، فنحب ما كرهناه، وعسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبوا!
كان ولم يزل اسم عبد الناصر يحرك وجدان الشعوب العربية، ويحيلني دائمًا لتبني نظرية الدكتاتورية العلمانية، المصحوبة برؤية سياسية ومخططات تنموية في الإنسان، المواطن.. المشروع القومي الموحد، حمل الشعب على ما لا يطيق حتى يحقق ما يريد، كانت حركة الضباط الأحرار رغم كل مساوئها أفضل ألف مرة من الملكية الاستبدادية الطبقية الظالمة، كان حكم الشعب هو الأساس، لا حكم النخبة، ولذلك لم تثر الجماهير على عبد الناصر ولكنها ثارت، وصارت مع عبد الناصر، وسارت على نهجه، أما سقوط تجربة تونس العلمانية فليس لعيب في العلمنة بحد ذاتها، ولا تدهور أوضاع لبنان مسؤولية لبنان العلمانية التي منحت بعلمانيتها مثلاً للتعايش بين الدرزي والمسلم والماروني وحزب الله، العيب كان في شخص الرئيس الفاسد، زين العابدين والذي لم يكن مع شعبه، فخسر قيمة أن يكون شعبه معه، ومع ذلك لا مجال للمقارنة بين عبد الناصر مفجر ثورات المنطقة ضد الاحتلال، وبين زين العابدين مفجر ثورات شعوب المنطقة ضده!
مات عبد الناصر محتفًى به، وخرجت جموع الشعب العربي لوداعه، بينما لم يجد بن علي بلدًا تستقبله كمنفى سوى السعودية لأسباب دبلوماسية لن أتحرَّاها الآن، ولكنها مفارقة لا تخفى على اللبيب، استقبال الدولة الإسلامية الأولى في المنطقة لرئيس مغاربي مخلوع كان يعتمد العلمنة سبيلاً لنهب بلاده!
وفي النهاية رحم الله القائد العظيم والزعيم العربي الخالد عبد الناصر عندما قال: "ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"!
"إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ".. أي المستبد العادل!
والله والوطن من وراء القصد!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق