إسماعيل حسني
حين نرى الشعب المصري يطل على العالم في أبهى حلة، ونرى أبناءه من جميع الطوائف والاتجاهات والطبقات يخرجون على قلب رجل واحد للمطالبة بحقهم في حياة حرَّة وعادلة وكريمة، ثم نرى شرذمة تخرج عن الإجماع الوطني، وتقوم ببلبلة الأفكار، وشق الصفوف، وتثبيط الهمم، وبث روح العجز والإحباط والقنوط بين الناس، فعلينا أن نتوقَّف عند هذه العلة لكشف أبعادها، والتحذير من طابور خامس يعيث بيننا.
فباستثناء أذناب النظام المتهاوي من مخبرين ومنتفعين ورجال المؤسَّسات الدينية الإسلامية والمسيحية ودعاتها، لم يخرج أحد عن الإجماع الوطني سوى هذه الشرذمة من الفاشيين الذين ينحازون دائمًا للأنظمة الاستبدادية الفاسدة في مواجهة شعوبها، ثم يحلو لهم أن يختبئوا وراء اسم براق، فيطلقون على أنفسهم الليبراليون الجدد.
فإذا كانت الليبرالية هي أحد منتجات الحداثة، وإذا كان جوهر الحداثة السياسية ليس سوى تحرُّر الشعب من كل أنواع الوصاية، سواء أكانت دينية أم سياسية أم ثقافية، وتحقيق سيادته على أرضه، أي تحويل السيادة الشعبية إلى مصدر للسلطة السياسية، ومرجع دائم ومستمر لها، فبأي حق يصف هؤلاء أنفسهم بالليبرالية، وهم يدافعون عن نظام ظالم فاسد مستبد في وجه شعب مقهور ومسلوب خرج يطالب بحقوقه الطبيعية؟ لمجرد أن هذا النظام بخنوعه وانبطاحه يحقِّق لهم أحلامهم في التماهي مع المشروع الأميركي الصهيوني الذي يرى فيه خيالهم المهزوم والملتبس بوابة الدخول إلى عصر الحداثة.
إن هؤلاء الذين يدعون الليبرالية وأنهم يهدفون لتحرير الشعوب، هم في الحقيقة يحتقرون هذه الشعوب، ويصفونها بالدهماء والغوغاء، وهم على أتم استعداد لأن يطأوا الشعوب بأقدامهم وأقدام الغزاة والمستبدين لتحقيق تصوراتهم البائسة عن العالم، تلك التي تمثلها الليبرالية الجديدة، ليبرالية ما بعد الحداثة، أو ليبرالية العولمة، التي تعود في جذورها إلى منظِّري مدرسة شيكاغو ميلتون فريدمان وفريدريك هايك، وتلاميذهم النجباء رونالد ريغان ومارغريت تاتشر وجورج بوش الابن والتي تنظر إلى الإنسان نظرة نفعية عالمية مجرَّدة تتجاوز الأوطان والأديان والطبقات الاجتماعية، وتهدف إلى إفراغ تراث الشعوب من كل محتوى إيجابي، وزعزعة إيمان تلك الشعوب بأنفسها، من أجل قيادتها حافية القدمين إلى فك أو سوق العولمة المفترس، ونعرف جميعًا حجم الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ألحقتها هذه الليبرالية بالعالم في السنوات الأخيرة.
لهذا فلم يكن غريبًا أن نرى هؤلاء يخذلون شعبنا المرة تلو الأخرى، فهم الذين انسحقوا أمام العدو الإسرائيلي ويبرِّرون احتلاله لأرض فلسطين، وينادون بالتطبيع معه، ويقومون بالترويج لدعاواه بيننا، وهم الذين صفقوا لاحتلال العراق، وللعدوان الإسرائيلي على لبنان وعلى غزة، وهم الذين أيدوا إنشاء جدار الذل والعار على حدودنا مع أشقائنا في فلسطين، بل ودعوا منذ أيام لشن حرب على غزة انتقامًا لحادث الإسكندرية المشؤوم، وهم كذلك الذين أيَّدوا مشروع التوريث، ويؤيدون جميع سياسات الرأسمالية المتقيِّحة الحاكمة في بلادنا التي تسحق أغلبية الشعب وتستحل حقوقها.
وهم ككل الأيديولوجيين انتقائيون حتى النخاع، فيعترضون على الدولة الإسلامية، ولكنهم يؤيدون الدولة اليهودية، ويعترضون على قتل الأمن لخالد سعيد، ولكنهم أيدوا قتل السلفي سيد بلال، وعبَّر بعضهم عن فرحته الشديدة بتلك المناسبة، وهم ينادون بتحرير الإنسان من سيطرة رجال الدين، ولكن يعترضون على تحريره من الأنظمة المستبدة التي تناسب طموحاتهم، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى. لقد كان موسوليني مؤسس الفاشية أشرف منهم جميعًا، حيث أعلن منذ اليوم الأول لإطلاق مذهبه عدم إيمانه بالحرية أو الديمقراطية أو التعددية أو سلطة الشعب، أما هم فيؤمنون بالقيم الليبرالية حين يريدون استخدامها سياسيًّا، ثم يضربون بها عرض الحائط بعد ذلك.
واليوم ترتكب هذه الشرذمة أكبر الأثافي، حين يطعنون الإجماع الوطني من الخلف، ويقفون في وجه أية محاولة للانتفاض على النظام المتهرئ أو تغييره، فرأيناهم يسخرون من الدعوة ليوم الغضب، ويسيرون في الطرقات ومواقع النت يثبطون همم الناس عن المشاركة فيه، مستخدمين نفس الحجج والفزاعات التي تنعق بها أبواق النظام ليل نهار، وهي المحافظة على الاستقرار الذي هو ليس سوى جمود وحرمان وموت بطيء، والخوف من استيلاء جماعات الإسلام السياسي على السلطة، رغم أن هذه الجماعات نصفها يعمل كمخبرين لدى الأمن، والنصف الثاني يحمدون الله على نعمة التواجد على مسرح الأحداث ولو ككومبارس، ويطيعون تعليمات ضباط الأمن طاعتهم لله، كما أنهم يضربون على قفاهم منذ عشرين عامًا ولم يجرؤوا قط حتى على الدفاع عن أنفسهم، وأخيرًا فهم غير مؤهلين لإدارة شؤون قرية صغيرة فضلاً عن إدارة دولة.
إن هؤلاء الليبراليين الجدد يلعبون دورًا هامًّا منذ سنوات في تشويه معنى الليبرالية في مجتمعنا، وإفراغها من محتواها الإنساني، وربطه في أذهان العامة بالإلحاد والعمالة والتطبيع ومعاداة الطبقات المسحوقة، بينما أفكارهم ودعاواهم ومواقفهم تشي بأنهم في حقيقة أمرهم لا ينتمون إلا لفكر فاشي براجماتي لا تخرج مبادئه عن النفعية والفوضوية والاستبداد، ولهذا فكثيرًا ما كتبنا وسنكتب في إبراز الفوارق بين هذه الليبرالية المزعومة وبين الليبرالية الوطنية، التي هي إنسانية في المقام الأول، حيث تعلي من شأن القيم الإنسانية، وتدور معها أينما دارت، وتنتصر للإنسان كونه إنسانًا، وتنتصر لحق الشعوب في الحرية والسيادة والاستقلال، بصرف النظر عن حساب الأرباح والخسائر.
لا أتصور أن أحدًا يمكن أن يزايد على الاتجاه العلماني الليبرالي لكاتب هذه السطور، ولا على تصديه ما وسعه الجهد لكل الأيديولوجيات الشمولية وبخاصة الدينية منها، ولكن حين يتعلق الأمر بمستقبل هذا الوطن، فالليبرالية هي الانحياز للشعوب، والإيمان بحقها في الحياة الكريمة، والدفاع عن حقها في التحرر من الاستبداد.